
في ليلة من عام 1969، ذهب "جيمس" إلي السينما و شاهد فيلم "أوديسا الفضاء:2001" 1968 إخراج "ستانلي كوبريك" الذي ملك عقله، و عرفه أن أساطيره مكانها الوحيد شاشة السينما "تعلمت من أفلام ستانلي كوبريك عدم فعل الشيء نفسه مرتين، فقد كان يدهشني كل مرة" فاشتري كاميرا 16مللي،و بدأ في تصوير كل ما تقع عليه عيناه من "غرائب" فقط، و تلخصت أحلامه في سؤال واحد فقط:"كيف ينفذ السينمائيون هذه المؤثرات البصرية و الخدع؟".
في عام 1971، تلقي والده "فرانسيس كاميرون" عرضا لتدريس الهندسة في جامعة كاليفورنيا، و وافق علي العرض بهدف زيادة دخل الأسرة التي انتقلت لتعيش علي الساحل الغربي الشهير. لم تكن فرحة "جيمس" بالانتقال تشبه فرحة والده، فقد كانت تحمل معني اهم هو "الحياة علي بعد أميال قليلة من هوليوود، و تحقيق الحلم بدراسة السينما"، لكن ارتفاع التكلفة جعله يتنازل عن حلمه بدراسة السينما، فدرس هوايته الثانية "الفيزياء" ثم الأدب الإنجليزي ليجمع بين أعمدة التميز الثلاث (الخيال و العلم و الشاعرية)، لكنه تنازل عن السينما إلي الأبد، لدرجة أنه توقف عن الدراسة و عمل "سائق" شاحنة لمدة 7 سنوات ، حاول خلالها أن يعيش في الواقع فقط، و يلعب دور مشاهد للأفلام مثل الملايين.
رغم غرامه بالأساطير و الحكايات الخياليه، كان تلميذا مجتهدا في المدرسة، كان يحب المذاكرة و القراءة رغم رفضه لعدد من المواد الدراسية، و كان لا يتعامل مع أي شيء يراه قبل القراءة و معرفة كل كبيرة و صغيرة عنه. في عام 1977، قرر "جيمس" سائق الشاحنة الذهاب إلي السينما لمشاهدة فيلم "حرب النجوم" 1977 إخراج "جورج لوكاس"، و بعد انتهاء الفيلم، قاد شاحنته إلي أقرب نهر و جلس أمام مياهه حتي الصباح يدخن و يشرب البيرة و يفكر في التخلص من هذه الحياة "الواقعية" المملة و الوظيفة التي تقتل خياله،و مع طلوع الصباح، ترك الوظيفة، و ذهب إلي أقرب مكتبة رئيسية و التي قضي فيها ليالي يقرأ كل معلومة عن صناعة السينما بدأ من كتابة السيناريو و نهاية بكيفية صنع المؤثرات بكل أنواعها، و لأن "قراءة كل الكتب و المقالات عن التصوير السينمائي لا تصنع فيلما حيا" اشتري عدسلت و معدات تصوير، و كان همه الأول "ميكانيزم" عمل كل قطعة فيها، بعدها، قرر الذهاب إلي هوليوود محملا بفكرة واحدة و هدف واحد "أنا صانع سينما متميز".
أي شخص لديه أفكار مختلفة عن أقرانه، يحتفي به، لكن هوليوود لا تعترف بالمجازفة غير المجربة، فقد عاني "جيمس" منذ دق بابها، فبعد أن كان مقتنعا أنه يملك مفتاحها، اكتشف أن شركات الإنتاج هي التي تتحكم في مرور أي شخص جديد، بل و تخضعه لإختبارات قاسية قبل أن تضع فيه بعض ثقتها، فعمل في مهن مختلفة في الصناعة قبل أن يعترف به كمخرج، منها "مصور مؤثرات خاصة"، و "مساعد مخرج"، و "مصمم و منفذ الأجزاء الصغيرة في الديكورات" من خلال شركة إنتاج صغيرة، و فشل في تسويق سيناريو كتبه مع صديقه "وليم ويشر"، لكنه لم ييأس، بل وافق علي كل وظيفة ترشح لها لدرجة أنه كان يقبل العمل في ثلاثة أفلام في وقت واحد و يبدع فيها جميعا، فهو في العمل يكاد يكون ماكينة لا تتوقف، لكنها ماكينة بشرية، لذلك صعد سلم السينما بسرعة، و كل يوم كان ينال إعجاب أقرانه، و في الوقت نفسه كرههم له، فقد كان عنيدا و قاسيا في العمل إلي أقصي درجة، حتي عندما كان يصور سيناريو لم يقتنع به، غير ترتيب المشاهد في المونتاج دون علم المنتج ضاربا بكل عقوبات مخالفة العقود عرض الحائط. "بعض المشاهد التي صورتها جعلتني أقتنع أن جيمس مجنون فعلا" "أرنولد شوارزنيجر" عن تصوير فيلم "المدمر"، "انبهرت بجيمس عندما قابلته، فهو لا يفقد التركيز أبدا، و يدافع عن أفكاره بعنف شديد، و قد تمنيت قتله 12 مرة أثناء التصوير" "ماري ماسترانتونيو" عن تصوير فيلم "كائنات غريبة". أكبر انعكاس لشخصية "جيمس" العنيفة يظهر في حياته الخاصة، فقد تزوج خمس مرات (شارون ويليامز 1978-1984 ، جيل آن هيرد 1985-1989 ،كاثرين بيجيلو 1989-1991 ، ليندا هاميلتون 1997-1999 ، سوزي ايمز 2000- حتي الآن)، جميعها بدأت بإعجاب شديد و انبهار، و انتهت بصعوبة الاستمرار و استحالة المعاشرة، فلا يوجد زوج في العالم يضع في منزله ثلاثة مكاتب كل منها عليه أوراق سيناريو فيلم، و لا يوجد عقل طبيعي يكتب السيناريوهات الثلاثة في الوقت نفسه، كما لا يوجد مخرج يمنع الممثلين من الذهاب إلي الحمام أثناء التصوير.
أقصي ما يتمناه مخرج سينمائي هو دخول التاريخ، لكن "جيمس" لا يتعامل مع الماضي أصلا، و لا يعترف به، فهو صانع تاريخ المستقبل، يكتب السيناريو "المستحيل" من وجهة نظر الإمكانيات الحالية التي لم تكن أبدا في مستوي تفكيره، فعندما عرض علي شركة "فوكس" سيناريو فيلم "أبيس" 1989 كان رأيها "لا يمكن تصوير مشاهد لكائنات غريبة في أعماق المحيط"، لكنه أصر عليها، و استدعي أخيه "مايك" و صمما سويا معدات تصوير تحت الماء و نالا عنها خمس براءات اختراع، و صور المشاهد التي تعتبر الآن من أصعب المشاهد التي صورت في تاريخ السينما، بل و اخترع مؤثرات بصرية جديدة منها "مؤثر مورفينج" الذي طوره في فيلم "المدمر2" 1991 ، و أصبح مؤثرا أساسيا في أفلام الخيال العلمي. و تكرر الأمر مع فيلم "تايتانيك"، عندما أصر علي تصوير حطام السفينة الأصلية دون استخدام غواصة، و اعترضت شركة الإنتاج بسبب عدم وجود كاميرا تتحمل 400 وحدة ضغط في قاع المحيط، لكنه طور كاميرا بمعاونة "مايك" و شركة "بانافيجن" لهذا الغرض، و غطس مع فريق عمل صغير لأيام صور خلالها ساعات طويله، و استعان من المدة المصورة ب12 دقيقة فقط ظهرت في الفيلم. و في عام 1994، كتب سيناريو فيلم " أفاتار" 2009،و وضعه في الدرج لأن "التكنولوجيا لم تصل إلي مستوي تنفيذ هذا السيناريو"، فهو الوحيد الذي يخترع تقنيات لتنفيذ أفكاره، فقد اخترع مع مدير التصوير "فينس بيس" تقنية ال "هاي ديفينشن" التي غيرت شكل الصورة السينمائية تماما، كما طور كاميرا فوتوجرافيا اسمها "فيوجن كاميرا"، و أسس مع آخرون شركة المؤثرات البصرية الشهيرة "ديجيتال دومين" التي يعمل فيها المئات الآن، "التكنولوجيا فيها دمار العالم و خلاصه، المهم كيف توظفها"، و نال بين السينمائيين لقب "المتكامل"، في حين يري أنه يفعل "الصح فقط".
النتائج الجيدة في العمل يعتبرها "جيمس" فشلا، فهو لا يتنازل عن النتائج الممتازة وفقا لرؤيته، و يحاسب فريق العمل حتي علي الأخطاء الصغيرة و التافهه، و وصلت دقته إلي اشتراطه لتنفيذ سيناريو فيلم "تايتانيك" بناء سفينة كاملة بحجم السفينة الأصلية، و التعاقد مع الشركة التي صممت و نفذت ديكورات السفينة الأصلية لتصميم و تنفيذ ديكورات الفيلم، و كاد يلغي مشروع فيلم "أفاتار" في منتصف التصوير لأن النتائج لم ترضه، و رغم أنه لا يعلن انتهاء تصوير أي فيلم إلا إذا وصل للمستوي الذي يريده، فإنه أثناء المونتاج يضع بجانبه "موس حلاقة" مكتوب عليه "يستخدم إذا كان الفيلم سيئا".
أسلوب "جيمس" في الإخراج يعتبر ثابتا في خطوطه الرئيسية، مختلفا في تفاصيله، فأفلامه فيها ما يمكن أن نسميه "أفكار ثابته" مثل مشاهد بحار أو مياه، لقطات مقربة علي الأقدام و الأحذية، إضاءة الفلورسنت أو الإضاءة البيضاء الضعيفة، مشاهد الفيديو التسجيلية من منظور الكاميرا، تصوير مشاهد الإنفجارات في خلفية أشخاص يهربون منها، مشاهد "الأسانسير" و وجود خطر قريب منه، لقطات مقربة علي السيارات و الأشخاص في مشاهد المطاردات و المشاجرات، و عادة يستخدم المونتاج الناعم، و رغم ذلك، يستطيع إبهار و مفاجأة المشاهد في كل مشهد، "أكتب السيناريو و أصوره، و لا أنظر إليه".
بعد أن أصبح ملك العالم مثلما قال و هو يحصل علي ثلاث جوائز أوسكار عن فيلم "تايتانيك"، فاجيء "جيمس" الجميع بعدم تصوير أي فيلم روائي لمدة 12 عاما، كان خلالها مشغولا بعمل ثورة في نوع آخر من السينما، هو السينما الوثائقية، فقد قدم فيلم "السرعة:بسمارك" 2002 عن حطام السفينة الألمانية "بسمارك" التي أغرقتها القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، ثم فيلم "أشباح الأبيس" 2003 عن حطام السفينة "تايتانيك" و استخدم فيه معدات تصوير حديثة و عرض في دور العرض بتقنية "ثلاثية الأبعاد"، و "كائنات الأعماق الغريبة" 2005، بينما فيلمه المقبل "معركة الملاك" مأخوذ عن قصة يابانية قدمت بطريقة الجرافيكس و تدور أحداثه في القرن السادس و العشرين.
"جيمس كاميرون" المولود في 16 أغسطس 1954 ، مخرج و سيناريست و منتج و رسام و مونتير و صانع أفلام وثائقية و مخترع، فازت أفلامه التسعة (ستة روائية و ثلاثة وثائقية بالإضافة إلي ترشيح "أفاتار" لتسع جوائز) ب18 جائزة أوسكار، و أمسك التاريخ من طرفيه: الشهرة التجارية ("تايتانيك" حقق مليار و 835 ملون دولار، و "أفاتار" تخطي 2 مليار دولار حتي الآن، و هما الأعلي إيرادات في تاريخ السينما)، و القيمة الفنية و بينهما سماوات من الخيال الجميل و الإفتراضات المدهشه و الإختراعات الفنية، بل صنع مستقبلا جديدا للسينما بتركيبته الفريده العنيده و العمل المستمر "إذا عدت إلي المنزل بعد يوم تصوير، و وجدت يداي نظيفتين، أعتبره يوما ضاع من حياتي".
إسلام حامد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق