بحث هذه المدونة الإلكترونية

Powered By Blogger

الثلاثاء، 16 مارس 2010

الليلة الكبيرة..الكتابة بعين رسام






لم يكن صلاح جاهين مجرد شاعر نقف عند اسمه، و نعده من علامات الشعر العامي في مصر، بل كان مختلفا و متفردا في كتابة العاميه، لأن أي شاعر يكتب الصورة التي يشعر بها (لذلك اسمه شاعر) و هذا يكفي لتكون جميلة تبعا لدرجة و طريقة إحساسه، لكن جاهين كان يري الصورة الشعرية التي يكتبها مع الإحساسا بها، و لن نبالغ إذا قلنا إنه كان "يشاهدها" تتحرك أمام عينيه، ليكتبها، و ذلك سبب تفرده و اختلاف عاميته عن الكبيرين بيرم التونسي و فؤاد حداد. و سبب كتابة صلاح جاهين بهذه الطريقة أنه في الأصل رسام لجأ إلي الشعر عندما اعترض والده علي الرسم لدرجة أنه التحق بكلية الفنون الجميلة سرا، لكنه لم يكمل دراسته فيها، فاستخدم "عين" الرسام لتكوين الصورة الشعرية فخرجت كاملة تنبض بالحياة، و أضاف إليها إحساس و ملاحظات الشاعر، و فهمه للناس و الواقع، و سخريته الذكية فأصبحت صورته متفردة بلا مبالغة.


و الأمثلة عديدة في أعمال جاهين، منها أغنية "يا واد يا تقيل" التي تقول: "و يبص ازاي/أهو كده كدهو/و ينادي ازاي/أهو كده كدهو/و يعادي ازاي/كدهو"، أكيد كان جاهين يري شكل "النظرة" و "النداء" و "العداء" قبل كتابة هذا الجزء، و في أغنية "بمبي" يقول: "بيت صغير فوق جزيرة لوحدنا و العنب طارح و ريحة البحر هالله" هذه "اللوحة" مرسومة في عيني جاهين قبل كتابتها، و الإحساس فيها يظهر في إضافة "الرائحة".


تتضح عبقرية جاهين و تفرده في "اللوحة" الغنائية "الليلة الكبيرة" التي لن يكتب مثلها مرة أخري، فهي لا تنتمي لفن الأوبريت مثلما صنفها كثيرون، بل هي أرقي منه دراميا و شعريا و محاكاة لواقع المولد الذي لا نعرف كيف وصل جاهين إلي عمق شخصياته و تفكيرها و حسها الفكاهي الطبيعي، في حين أنه ابن قاضي و ينتمي إلي طبقة اجتماعية راقية.

و قد نجا "جاهين" من "المطب" الذي يقع فيه معظم الشعراء عندما يكتبون الدراما، و هو أن تتحدث الشخصيات كلها بلسان واحد هو لسان الشاعر، فيخرج العمل غير حقيقي، بل اضاف صورا جديدة لشخوص "الليلة الكبيرة" منها ما جاء علي ألسنة "بائع الممبار": "استخار و اختار فشه او ممبار"، و "بائع الحمص": "حمص حمص تل ما ينقص ع النار يرقص"، و "بائع السمك": "السمك مقلي كل و برقلي".

و لأن "جاهين" رسام، فقد وضع إطارا للمولد به أهم تفاصيله و هي "الليلة الكبيرة يا عمي و العالم كتيره/ماليين الشوادر يابا م الريف و البنادر"،و صنفهم زيادة في الوضوح "دول فلاحين و دول صعايدة/دول م القنال و دول رشايده"،و "إوعي لجيبك لا العيب عيبك" لأن المولد مشهور بوجود اللصوص، و الأراجوز "الساخر" الذي يصف للعمدة "الساذج" الطريق ل"سيدي المتولي" بطريقة فكاهيه عبقرية ليجعله يتوه في آخرها "تفضل كده تمشي و تلف/ و تخش من مطرح ما طلعت/ و لما تلقي مقلة لب/ تعرف بإنك توهت و ضعت"، في حين يري العمدة أنها "وصفه سهله و هايله"، و يستخدم التراث في "يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات/ في مقامه الطاهر خشي و قيدي سبع شمعات"، و يضفر مشكلة زيادة السكان في جملة "بالذمة ده سابع عيل/مولود من وقت قليل"،و الأجمل أن كل شخصية تتحدث بطبيعتها التي تختلف عن الباقين، و يتضح ذلك في شخصية "الأسطي عمارة" الذي يفتخر بشهرته "من القلعة لسويقة اللا لا"، في حين يدخل المقهي مع "مسعد" بمدح الجالسين "مسا التماسي يا ورد قاعد علي الكراسي" ليستمع إلي الغناء دون أن يطلب مشروبا "اللي هايطلب راح يقعد/و اللي مايطلبش يبعد/يلا بنا نخرج يا مسعد شارع الترماي"، و "آدي كمان قهوه/ يلا بنا يا مسعد ندخل علي سهوه".

و يختتم"جاهين" لوحته بصورة في غاية الجمال و الوعي و هي السيدة التي تاهت إبنتها في المولد "يا ولاد الحلال/بنت تايهه طول كده/رجلها الشمال/فيها خلخال زي ده"،و لن نكرر فكرة رؤية الصورة قبل كتابتها، ليرد عليها رجل يلخص المولد في جملة "زحمة يا ولداه/ كام عيل تاه؟".

إسلام حامد

لينك الجزء الأول


http://www.youtube.com/watch?v=_w_gv4mtGgA


لينك الجزء الثاني


http://www.youtube.com/watch?v=hgjF0iFzOrQ&feature=related

السبت، 6 مارس 2010

"القاريء"..مأساة جيل إغتصبته ألمانيا..فلم يرحمها









أفلام قليلة تناولت، أو ذكرت خلال أحداثها، محارق ال"هولوكوست" في الحرب العالمية الثانية دون توظيف كل لقطة و كادر و جملة حوار للتعاطف مع اليهود، و إظهارهم ضحايا أفعال الألمان البشعة، و التأكيد علي فكرة "أفران النازية" التي احترق فيها ملايين رغم أن هذه المحارق "المزعومة" شملت الغجر و الشواذ جنسيا و المعاقين و الشيوعيين و قصار القامة و المصابين بأمراض وراثية و المعارضين لنظام هتلر، لكن اليهود فقط هم الذين يستغلونها لتحقيق أكبر مكاسب سياسية و مادية إلي الآن.

فيلم "القاريء" من هذه الأفلام القليلة، بل هو فيلم متفرد لعدة أسباب: الأول أنه مأخوذ عن أول رواية ألمانية تحقق أعلي مبيعات في نيويورك، و هي باسم الفيلم نفسه، و قد طبعت عام 1995 و ترجمت إلي 40 لغة و مؤلفها القاضي الألماني "برنهارد شلينك". و الثاني أن السيناريو الذي تدور أحداثه الرئيسية عامي 1958 (زمن العلاقة الجنسية بين البطلين)،و 1966 (زمن محاكمات "الدرجة الرابعة" لمجرمي الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الثانية)، لا يركز علي المحاكمات و لا شرعيتها و لا الجرائم و لا المجرمين، بل يوضح مأساة الجيل الذي ولد أثناء الحرب و تعامله مع جيل أكبر عاش الحرب و فترة النازية و اشترك في مشروع احتلال العالم. و الثالث أن الفيلم يركز علي السلوك الإنساني للمواطن الألماني في تلك الفترة و النابع من طبيعة المجتمع الذي تحول من مجتمع عسكري قوي سياسيا، مقهور إنسانيا، إلي مجتمع مدني، و يعكس ناتج صدام المجتمعين و الذي أفرز أشخاصا غير متزنين ، بل خائفون من كل شيء رغم رغبتهم في المعرفة و التعلم، و لا يأخذون خطوة للأمام حتي لو كان مصير شخص يحبونه يتوقف علي كلمة حق منهم.

إنسانيا، كل علاقات الحب مقدسة و مهمة مهما كان شكلها، لكن فارق السن له أحكام غالبا ما تتحكم في طبيعة العلاقة و هذا لا يعني أنه يفسدها، فعلاقة فتي مع سيدة غالبا ما يحكمها الجنس و هذا ليس معناه عدم وجود حب لأن الجنس الحقيقي صورة عميقة للتعبير عن الحب. و في المجتمعات المقهورة، يتحكم الجنس في تصرفات البشر، و يتحرك معهم في الشارع و العمل و حتي أثناء نومهم، و يجعلهم ينتظرون فرصة و لو ضعيفة لممارسته حتي لو كان شكل المجتمع ككل يظهر محافظا صارما.

"هانا شميتز" نموذج لهذه الشخصية ابنة المجتمع العسكري المقهور، عمرها 36 عاما، و تعمل "كومساري" في المترو، فهي صارمة، جادة، دقيقة، نظيفة (تكوي حتي ملابسها الداخلية، و تشرب اللبن)، لكنها عانس قوية "وحيدة"، و تقيم -بشروطها- علاقة جنسية مع "مايكل بيرج" فتي في المدرسة عمره 15 عاما يكتب الشعر و يجمع الطوابع، و من أسرة هي نموذج للمجتمع الألماني في تلك الفترة، محافظة، و يظهر ذلك في مشاهد تناول الطعام و ديكورات المنزل، لكن كل فرد فيها لديه معاناته الإنسانية الخاصة و التي لا يظهرها حتي لا يعكر صفو مياه الأسرة المستقرة.

يمكن استقبال الفيلم بأكثر من طريقة: الأولي قصة بين فتي و سيدة تنشأ بينهما علاقة جنسية غرضها الشهوة و المتعة، ينتج عنها تدمير نفسي للفتي، لكن شرط السيدة بأن يقرأ لها الفتي قبل ممارسة الجنس لأنها لا تقرأ و لا تكتب، ينقلنا إلي الطريقة الثانية، و هي جهل جيل اشترك في الحرب العالمية الثانية، و ساهم في تدمير جيل يليه يريد التعلم و التخلص من فكرة "ألمانيا النازية". و بملاحظة أن "هانا" تعكس ملامح دولة بأكملها حاول نظامها احتلال العالم فعليا، و تنتظر فرصة لتفريغ طاقتها الجنسية الجامحة جموح "ألمانية هتلر" لحكم العالم، و تخفي شهوتها تحت النظام و الصرامة، و ملاحظة أن عمر "مايكل" هو نفس مدة حكم الحزب النازي لألمانيا 15 عاما (من 1930 إلي 1945 )، ننتقل إلي طريقة ثالثة أشمل في التلقي خاصة أن "هانا" تحاكم بعد 8 سنوات من علاقتها ب"مايكل" بتهمة ترك 300 سيدة يهودية أثناء الحرب تحترقن داخل كنيسة في معسكر "أوشفيتز" الشهير (أقيم عام 1942 و شهد مقتل مليون و نصف المليون شخص) أثناء عملها كحارس علي الكنيسة عام 1943 بعد انضمامها إلي وحدات ال"اس.اس" أو "شوتزشتافل"، (معناها قوة سرية وقائية، تأسست عام 1925، و كان دورها الرئيسي في معسكرات الإبادة، و كان شعارها "شرفي هو خلاصي")، و لم تفتح لهن الباب، فيحكم عليها بالسجن مدي الحياة بدليل إدانة "وحيد" مثلها و هو "تقرير بخط يدها و توقيعها"، و رغم أنها كانت تستطيع إثبات براءتها بسهولة لأنها لا تعرف القراءة و لا الكتابة، إلا أن كبرياءها يجعلها تفضل السجن علي الاعتراف بالجهل، كما أن "مايكل" لم ينقذها رغم أنه الوحيد الذي يملك دليل براءتها، في صورة واضحة لألمانيا تحت قيادة الحزب النازي الذي كان في يده خلاصها ، لكنه فضل الانتقام رغم حبه الشديد لها.

و تتضح رؤية الفيلم في مشهد آخر لقاء بين "هانا" و "مايكل" يوم عيد ميلاده الذي تشاجرا فيه عندما قال لها: "كل شيء بشروطك،و يجب أن اعتذر أنا دائما"، فردت عليه: "لا تعتذر،لا أحد يجب أن يعتذر،إقرأ لي قصة الحرب و السلام"، ثم "تحممه" مثل أم "تحمم" طفلها، لكن من أسفل إلي أعلي، أي تبدأ بقدميه و تنتهي برأسه عكس أي "حموم" طبيعي، كأنها تحاول أن تغسله و تطهره من كل ما فعلته معه، لكن بطريقة خاطئة و غير حقيقية، لذلك شهوتها تغلبها، و تمارس الجنس معه للمرة الأخيرة، كأنها تودعه بعد أن دمرته تماما.
إسلام حامد











الثلاثاء، 2 مارس 2010

"جيمس كاميرون"..سائق "الشاحنة" الذي كسر كل إشارات المرور إلي تاريخ السينما








كان طفلا مختلفا، يقرأ قصص الخيال العلمي و المغامرات في الغابات و البحار. كان يتابع أمه و هي ترسم، و كل ضربة فرشاة شاهدها، حفرت خطا في موهبة انتقلت إليه لدرجة الإتقان، لذلك ليس غريبا أن اليد التي رسمت "روز" عارية في المشهد الشهير في فيلم "تايتانيك" 1997 هي يده، و كل ما فعله أن "عكس" الكادر لأنه "أعسر"، بينما شخصية "جاك" تستعمل اليد اليمني.


غرام "جيمس فرانسيس كاميرون" بوالده مهندس الكهرباء، جعله يراقب الأجهزة الكهربية، ليقع في غرامها لدرجة أنه كان يفككها ليعرف كيف تعمل، و كان يشاركه هذه الهواية أخوه "مايك"، و كانا مشهوران في القرية الصغيرة في أونتاريو في كندا ب"عالما كابوسكاسينج" لأنهما كانا يستطيعان تحريك أي شيء. و عندما عمل "جيمس" كمخرج مساعد في فيلم "مجرة الرعب" 1981، صور مشهدا لشخص يأكل ديدان كان من المفترض أن تظهر علي الشاشة حية تتحرك، و كان ذلك صعبا وقتها، لكن "جيمس" عندما قال:"أكشن" تحركت الديدان فعلا، و عندما قال:"كت" سكنت، فاتجه إليه منتجان حضرا التصوير، و سألاه عن كيفية تحريك الديدان، فقال لهما ببساطة:"ربطت كل الديدان بسلك كهرباء مررته من خلال ذراع الشخصية التي ستأكل، و أحد طرفيه ربطته فيها، في حين الطرف الآخر متصل بمصدر كهرباء، و عندما تحركت الذراع، أغلقت الدائرة الكهربية،و تحركت الديدان بفعل سريان التيار الكهربي"، فطلبا منه إخراج فيلم خيال علمي، و كانت هذه الديدان سبب تعرف هوليوود علي صانع خدع اسمه "جيمس كاميرون".

كان "جيمس" يعيش في الأساطير و الحكايات خاصة أسطورة "طائر العنقاء"، و يحاول تعديلها و يضيف إليها و يحذف منها، و بعد سنوات أنقذته من الإحباط عندما أرسل لتصوير فيلما سيئا في روما، أصر منتجه علي عدم تعديل السيناريو، و بعد انتهاء التصوير، شعر أنه فاشل وحيد، فاستدعي "العنقاء" الذي يهب من الرماد مرة أخري بعد احتراقه، و ألبسه "بدله حديدية" لتولد الشخصية الرئيسية في فيلم "المدمر" 1984 الذي كتبه و أخرجه و حقق نجاحا "أسطوريا" فتح له مغارة هوليوود لتوضع كنوزها تحت قدميه دون حتي أن يقول "افتح يا سمسم".

في ليلة من عام 1969، ذهب "جيمس" إلي السينما و شاهد فيلم "أوديسا الفضاء:2001" 1968 إخراج "ستانلي كوبريك" الذي ملك عقله، و عرفه أن أساطيره مكانها الوحيد شاشة السينما "تعلمت من أفلام ستانلي كوبريك عدم فعل الشيء نفسه مرتين، فقد كان يدهشني كل مرة" فاشتري كاميرا 16مللي،و بدأ في تصوير كل ما تقع عليه عيناه من "غرائب" فقط، و تلخصت أحلامه في سؤال واحد فقط:"كيف ينفذ السينمائيون هذه المؤثرات البصرية و الخدع؟".


في عام 1971، تلقي والده "فرانسيس كاميرون" عرضا لتدريس الهندسة في جامعة كاليفورنيا، و وافق علي العرض بهدف زيادة دخل الأسرة التي انتقلت لتعيش علي الساحل الغربي الشهير. لم تكن فرحة "جيمس" بالانتقال تشبه فرحة والده، فقد كانت تحمل معني اهم هو "الحياة علي بعد أميال قليلة من هوليوود، و تحقيق الحلم بدراسة السينما"، لكن ارتفاع التكلفة جعله يتنازل عن حلمه بدراسة السينما، فدرس هوايته الثانية "الفيزياء" ثم الأدب الإنجليزي ليجمع بين أعمدة التميز الثلاث (الخيال و العلم و الشاعرية)، لكنه تنازل عن السينما إلي الأبد، لدرجة أنه توقف عن الدراسة و عمل "سائق" شاحنة لمدة 7 سنوات ، حاول خلالها أن يعيش في الواقع فقط، و يلعب دور مشاهد للأفلام مثل الملايين.

رغم غرامه بالأساطير و الحكايات الخياليه، كان تلميذا مجتهدا في المدرسة، كان يحب المذاكرة و القراءة رغم رفضه لعدد من المواد الدراسية، و كان لا يتعامل مع أي شيء يراه قبل القراءة و معرفة كل كبيرة و صغيرة عنه. في عام 1977، قرر "جيمس" سائق الشاحنة الذهاب إلي السينما لمشاهدة فيلم "حرب النجوم" 1977 إخراج "جورج لوكاس"، و بعد انتهاء الفيلم، قاد شاحنته إلي أقرب نهر و جلس أمام مياهه حتي الصباح يدخن و يشرب البيرة و يفكر في التخلص من هذه الحياة "الواقعية" المملة و الوظيفة التي تقتل خياله،و مع طلوع الصباح، ترك الوظيفة، و ذهب إلي أقرب مكتبة رئيسية و التي قضي فيها ليالي يقرأ كل معلومة عن صناعة السينما بدأ من كتابة السيناريو و نهاية بكيفية صنع المؤثرات بكل أنواعها، و لأن "قراءة كل الكتب و المقالات عن التصوير السينمائي لا تصنع فيلما حيا" اشتري عدسلت و معدات تصوير، و كان همه الأول "ميكانيزم" عمل كل قطعة فيها، بعدها، قرر الذهاب إلي هوليوود محملا بفكرة واحدة و هدف واحد "أنا صانع سينما متميز".

أي شخص لديه أفكار مختلفة عن أقرانه، يحتفي به، لكن هوليوود لا تعترف بالمجازفة غير المجربة، فقد عاني "جيمس" منذ دق بابها، فبعد أن كان مقتنعا أنه يملك مفتاحها، اكتشف أن شركات الإنتاج هي التي تتحكم في مرور أي شخص جديد، بل و تخضعه لإختبارات قاسية قبل أن تضع فيه بعض ثقتها، فعمل في مهن مختلفة في الصناعة قبل أن يعترف به كمخرج، منها "مصور مؤثرات خاصة"، و "مساعد مخرج"، و "مصمم و منفذ الأجزاء الصغيرة في الديكورات" من خلال شركة إنتاج صغيرة، و فشل في تسويق سيناريو كتبه مع صديقه "وليم ويشر"، لكنه لم ييأس، بل وافق علي كل وظيفة ترشح لها لدرجة أنه كان يقبل العمل في ثلاثة أفلام في وقت واحد و يبدع فيها جميعا، فهو في العمل يكاد يكون ماكينة لا تتوقف، لكنها ماكينة بشرية، لذلك صعد سلم السينما بسرعة، و كل يوم كان ينال إعجاب أقرانه، و في الوقت نفسه كرههم له، فقد كان عنيدا و قاسيا في العمل إلي أقصي درجة، حتي عندما كان يصور سيناريو لم يقتنع به، غير ترتيب المشاهد في المونتاج دون علم المنتج ضاربا بكل عقوبات مخالفة العقود عرض الحائط. "بعض المشاهد التي صورتها جعلتني أقتنع أن جيمس مجنون فعلا" "أرنولد شوارزنيجر" عن تصوير فيلم "المدمر"، "انبهرت بجيمس عندما قابلته، فهو لا يفقد التركيز أبدا، و يدافع عن أفكاره بعنف شديد، و قد تمنيت قتله 12 مرة أثناء التصوير" "ماري ماسترانتونيو" عن تصوير فيلم "كائنات غريبة". أكبر انعكاس لشخصية "جيمس" العنيفة يظهر في حياته الخاصة، فقد تزوج خمس مرات (شارون ويليامز 1978-1984 ، جيل آن هيرد 1985-1989 ،كاثرين بيجيلو 1989-1991 ، ليندا هاميلتون 1997-1999 ، سوزي ايمز 2000- حتي الآن)، جميعها بدأت بإعجاب شديد و انبهار، و انتهت بصعوبة الاستمرار و استحالة المعاشرة، فلا يوجد زوج في العالم يضع في منزله ثلاثة مكاتب كل منها عليه أوراق سيناريو فيلم، و لا يوجد عقل طبيعي يكتب السيناريوهات الثلاثة في الوقت نفسه، كما لا يوجد مخرج يمنع الممثلين من الذهاب إلي الحمام أثناء التصوير.

أقصي ما يتمناه مخرج سينمائي هو دخول التاريخ، لكن "جيمس" لا يتعامل مع الماضي أصلا، و لا يعترف به، فهو صانع تاريخ المستقبل، يكتب السيناريو "المستحيل" من وجهة نظر الإمكانيات الحالية التي لم تكن أبدا في مستوي تفكيره، فعندما عرض علي شركة "فوكس" سيناريو فيلم "أبيس" 1989 كان رأيها "لا يمكن تصوير مشاهد لكائنات غريبة في أعماق المحيط"، لكنه أصر عليها، و استدعي أخيه "مايك" و صمما سويا معدات تصوير تحت الماء و نالا عنها خمس براءات اختراع، و صور المشاهد التي تعتبر الآن من أصعب المشاهد التي صورت في تاريخ السينما، بل و اخترع مؤثرات بصرية جديدة منها "مؤثر مورفينج" الذي طوره في فيلم "المدمر2" 1991 ، و أصبح مؤثرا أساسيا في أفلام الخيال العلمي. و تكرر الأمر مع فيلم "تايتانيك"، عندما أصر علي تصوير حطام السفينة الأصلية دون استخدام غواصة، و اعترضت شركة الإنتاج بسبب عدم وجود كاميرا تتحمل 400 وحدة ضغط في قاع المحيط، لكنه طور كاميرا بمعاونة "مايك" و شركة "بانافيجن" لهذا الغرض، و غطس مع فريق عمل صغير لأيام صور خلالها ساعات طويله، و استعان من المدة المصورة ب12 دقيقة فقط ظهرت في الفيلم. و في عام 1994، كتب سيناريو فيلم " أفاتار" 2009،و وضعه في الدرج لأن "التكنولوجيا لم تصل إلي مستوي تنفيذ هذا السيناريو"، فهو الوحيد الذي يخترع تقنيات لتنفيذ أفكاره، فقد اخترع مع مدير التصوير "فينس بيس" تقنية ال "هاي ديفينشن" التي غيرت شكل الصورة السينمائية تماما، كما طور كاميرا فوتوجرافيا اسمها "فيوجن كاميرا"، و أسس مع آخرون شركة المؤثرات البصرية الشهيرة "ديجيتال دومين" التي يعمل فيها المئات الآن، "التكنولوجيا فيها دمار العالم و خلاصه، المهم كيف توظفها"، و نال بين السينمائيين لقب "المتكامل"، في حين يري أنه يفعل "الصح فقط".

النتائج الجيدة في العمل يعتبرها "جيمس" فشلا، فهو لا يتنازل عن النتائج الممتازة وفقا لرؤيته، و يحاسب فريق العمل حتي علي الأخطاء الصغيرة و التافهه، و وصلت دقته إلي اشتراطه لتنفيذ سيناريو فيلم "تايتانيك" بناء سفينة كاملة بحجم السفينة الأصلية، و التعاقد مع الشركة التي صممت و نفذت ديكورات السفينة الأصلية لتصميم و تنفيذ ديكورات الفيلم، و كاد يلغي مشروع فيلم "أفاتار" في منتصف التصوير لأن النتائج لم ترضه، و رغم أنه لا يعلن انتهاء تصوير أي فيلم إلا إذا وصل للمستوي الذي يريده، فإنه أثناء المونتاج يضع بجانبه "موس حلاقة" مكتوب عليه "يستخدم إذا كان الفيلم سيئا".

أسلوب "جيمس" في الإخراج يعتبر ثابتا في خطوطه الرئيسية، مختلفا في تفاصيله، فأفلامه فيها ما يمكن أن نسميه "أفكار ثابته" مثل مشاهد بحار أو مياه، لقطات مقربة علي الأقدام و الأحذية، إضاءة الفلورسنت أو الإضاءة البيضاء الضعيفة، مشاهد الفيديو التسجيلية من منظور الكاميرا، تصوير مشاهد الإنفجارات في خلفية أشخاص يهربون منها، مشاهد "الأسانسير" و وجود خطر قريب منه، لقطات مقربة علي السيارات و الأشخاص في مشاهد المطاردات و المشاجرات، و عادة يستخدم المونتاج الناعم، و رغم ذلك، يستطيع إبهار و مفاجأة المشاهد في كل مشهد، "أكتب السيناريو و أصوره، و لا أنظر إليه".

بعد أن أصبح ملك العالم مثلما قال و هو يحصل علي ثلاث جوائز أوسكار عن فيلم "تايتانيك"، فاجيء "جيمس" الجميع بعدم تصوير أي فيلم روائي لمدة 12 عاما، كان خلالها مشغولا بعمل ثورة في نوع آخر من السينما، هو السينما الوثائقية، فقد قدم فيلم "السرعة:بسمارك" 2002 عن حطام السفينة الألمانية "بسمارك" التي أغرقتها القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، ثم فيلم "أشباح الأبيس" 2003 عن حطام السفينة "تايتانيك" و استخدم فيه معدات تصوير حديثة و عرض في دور العرض بتقنية "ثلاثية الأبعاد"، و "كائنات الأعماق الغريبة" 2005، بينما فيلمه المقبل "معركة الملاك" مأخوذ عن قصة يابانية قدمت بطريقة الجرافيكس و تدور أحداثه في القرن السادس و العشرين.

"جيمس كاميرون" المولود في 16 أغسطس 1954 ، مخرج و سيناريست و منتج و رسام و مونتير و صانع أفلام وثائقية و مخترع، فازت أفلامه التسعة (ستة روائية و ثلاثة وثائقية بالإضافة إلي ترشيح "أفاتار" لتسع جوائز) ب18 جائزة أوسكار، و أمسك التاريخ من طرفيه: الشهرة التجارية ("تايتانيك" حقق مليار و 835 ملون دولار، و "أفاتار" تخطي 2 مليار دولار حتي الآن، و هما الأعلي إيرادات في تاريخ السينما)، و القيمة الفنية و بينهما سماوات من الخيال الجميل و الإفتراضات المدهشه و الإختراعات الفنية، بل صنع مستقبلا جديدا للسينما بتركيبته الفريده العنيده و العمل المستمر "إذا عدت إلي المنزل بعد يوم تصوير، و وجدت يداي نظيفتين، أعتبره يوما ضاع من حياتي".


إسلام حامد